28/03/2024

.

A good word aimed at the service of humanity

ميراثُ حزنٍ… قصَّة قصيرة ليلى عبدالواحد المُرَّاني/ العراق

1 min read

ليلى عبد الواحد المراني

Spread the love

ميراثُ حزنٍ… قصَّة قصيرة
ليلى عبدالواحد المُرَّاني… عراقية مغتربة
أصبحت اللقاءات في مدينتي تأخذ طابعاً جديداً.. نساءٌ يتلفّعن بعباءات سود، وظلال لهفةٍ وشوق للوصول إلى المكان للقاءٍ يكاد يتكرّر يوميّاً.
الأمر كان مختلفاً عند أوَّل جنازةٍ ل ـشهيدٍ ـ تحمله سيارة عسكريّة، وموشّحٍ بالعلم.. بخشوعٍ ، اصطفّ المارة على جانبي الطريق، يلوّحون بأيديهم، مودّعين بالدعاء وبجنٰات الخلد، بعضهم بكى، ونساء زغردن للشاب ـ العريس ـ، يُزفّ إلى قبره قبل أن يكمل دينه..!
الآن، وبعد طوابير من ـ الشهداءـ ، أصبح الأمر لا يثير إلاّ السخط، والخوف أن يكون ابنك أو ابن أخيك هو العريس الشهيد التالي..! المآتم أيضاً أخذت طابعاً جديداً في عالم النساء، مواعيد متجدّدة يلتقين فيها للثرثرة وضحكاتٍ مكتومة خلف العباءة السوداء، قد يكون اللقاء في غرفةٍ صغيرةٍ معتمة، في بيتٍ قديم متداعٍ ، أو في صالةٍ واسعةٍ يغمرها النور من جميع الزوايا.. لكنّ الأمر سيّان في الحالتين ..ـ الندّابةـ نفسها، بثوبها الأسود الفضفاض، وجيب كبير على الجانب، تضع فيه لوازم عدّة البكاء والنحيب.. واللّطم، ونقوداً تجود بها الباكيات أيضاً..!
كعادتها في كلّ مرة، دخلت متسلّلةً بهدوء وحذر.. متكوّرةً داخل عباءتها.. شحوب وجهها ونظرتها الخائفة، تائهةً في المجهول، تعطيك انطباعاً بأنّ أمراً جللاً حدث لها، أو سيحدث! .. وكالعادة أيضاً ، صُوّبت نحوها نظرات مستنكرة، أخرى متسائلة.. وأكثرها مشفقة.. عند طرف الباب انزوت، وجهها الشاحب وعيناها التائهتان تطوف بهما نظرة غامضة، هي مزيجٌ من قنوطٍ وضياع.. خوف وحزن.. ترقّب وحذر، كلّ ما سبق شكّل منها صورةً مبهمةً لمن لا يعرفها.. ونهايةً لحياةٍ امتلأت هموماً وآلاماً.. وحزناً ليس له سماءٌ أو قرار، حزنٌ يختصر كلٰ ما في العالم من أحزان..
صورة شابٍ وسيم، داخل إطارٍ فضّي، معلّق بسلسلةٍ سميكة، تتدلّى على صدرها..
همست إحداهنّ.. انظري كيف تراقب الجميع .. الأخرى أجابت بحذر .. يقولون إنٰها تحمل جهازاً يسجّل كلّ ما يدور من أحاديث في المأتم.. تتجسّس، تقصدين؟، بجزع هتفت ثالثة.. الله أعلم !.. قالت الأولى بارتياب .. رمقتهنّ امرأةٌ مسنّة بسخط.. واللهِ حرام.. ظلمٌ وجَور.. اتركوا المرأة المسكينة وأحزانها ..
دفعني فضولي أن أسأل صاحبتي خلال فترة استراحةٍ – وهبتها الندّابة للنساء الباكيات بعد أن استنفذت كلّ دموعهنّ وطاقتهن – سأحدّثك عنها حين نخرج.. همست صديقتي..
وبصمتٍ مقدّس، انهمرت دموعها شلّالاً، وبيدٍ مرتجفة رفعت صورة الشاب إلى فمها وقبّلتها.. ثمّ أعادتها بحذرٍ شديد إلى موقع القلب من صدرها.
لم تكن المرّة الأولى التي ألتقي بها في مأتم ، ولم يكن المأتم الأول الذي أحضره، فقد كثرت المآتم في وطني.. وعدد الندّابات بات يخضع للعرض والطلب.
شابُّ لم يتجاوز العشرين في معظم الحالات، يزفّ عريساً إلى قبره، و ـ شهيداً ـ يطلقون عليه، والمفارقة المبكية، لم يطلب الشهادة هو ، ولا سعى إليها، بل سيق كما تساق الخراف إلى الذبح، في حربٍ رعناء، ظالمة لم تبقِ ولم تذر..
الدموع لم تعد كما كانت مطراً ساخناً، غزيراً عند سماع (الگولات) التي تطلقها المرأة المكتنزة داخل ثوب فضفاضٍ أسود.. صوتها الشجيّ الباكي – من غير دموع – أصبح هو الآخر لا يثير حسرةً، ولا دموعاً.. جفّت المآقي لكثرة ما ذرفت.. إلاّ الأمهات المنكوبات، أو الزوجات والأخوات، يمزّقن صدورهن ووجوههم بنوباتٍ هستيريّةٍ، تصل حدّ الدروشة، وسط عويلٍ تزيد من سعيره أوصافٌ تطلقها – الندّابة – على الشهيد، أو على مسنٍّ لم ينل شرف الاستشهاد في الحرب المقدّسة، وقد تتهامس النسوة، وتنطلق ضحكات مكتومة، يسار عن في خنقها خلف أسوار العباءة، أدركت حينها أنّ للعباءة فوائد أخرى، غير إظهار الاحترام والتوقير لمقام المتوفّي وأهله!
بصمتٍ انسلّت خارجةً، كما جاءت وكأنها طيف.. تاركةً خلفها عيوناً محدّقةً بريبةٍ وشكّ.. أو بعطفٍ وإشفاق..
مسكينةٌ هذه المرأة، قالت صديقتي ونحن في طريق العودة.. صورة ابنها، خرّيج كلّية الهندسة، التي تحملها على صدرها.. من أروقة الجامعة، إلى معسكرٍ للتدريب السريع.. وقوداً لحربٍ دامية مع رفاقٍ أخرين.. كلاشنكوف ثقيل تدرَّب عليه مكرهاً.. مرحاً، محبّاً للحياة.. كان، طموح وأملٌ يملؤه بمستقبلٍ زاهر، وعملٍ جيّد يعيل من ورائه أمه الأرملة وإخوته الصغار..
خائفاً، متوجّساً ينظر إلى سفير الموت، رافضاً في داخله أن يكون أداة قتل ، كيف، ولماذا يقتل إنساناً آخر لا يعرفه، وليس بينهما أيّ سوء؟.. لحظة يأسٍ وضياع قادته إلى بيت خالته.. في خزّانٍ للمياه فوق السطح، رمى أداة الموت.. ملتفتاً، يرى ابن خالته المعتوه يراقبه.. وبرجاءٍ صامت، توسّله أن يكتم السرّ
ليلاً، والقمر يراقب باكياً.. اقتلعوه من فراشه بملابس نومه، وسط توسّلات أمه ونحيبها .. وعويل أخوته الصغار الخائفين.. تحشرج صوت صديقتي، فتوقٰفت، وبهدوءٍ حزين، مسحت دموعاً تساقطت في كوب الشاي.. عدوى الصمت الحزين تسلّلت إلى روحي، لم أجرؤ على النطق، وأنا أكاد أتوقّع ما حصل بعد ذلك..
العراقيون أجمع يعرفون السيناريو الدامي لحالةٍ كهذه، كثيراً تكرّرت..
مع أوَّل خيطٍ يشقّ عتمة الليل، وبعد يومين.. طرقوا بابها.. مذعورةً، ترتجف ركضت.. عند قدميها قذفوا جثّةً ملفوفةً بخرقةٍ بيضاء متّسخة.. خذيه، ادفنيه بصمت، لا عزاء ولا معزّين.. لا صياح ولا عويل، بصمت، أتفهمين..؟
الصوت كان قاسياً، مهدّداً، كأنه القدر.. نفذ إلى صدرها كنصل سكّينٍ حادّ.. ثمّ.. وهاتِ ثمن الرصاصة، يا أمّ الجبان.

 
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmailby feather

You may have missed