09/10/2024

.

A good word aimed at the service of humanity

قراءة ليزريّة في ديوان (للرّوح أزاهير وثمار) للشاعر حكمت الخولي / بقلم الأستاذة تمارا شلهوب /لبنان

1 min read
Spread the love

قراءة ليزريّة في ديوان للرّوح أزاهير وثمار

        كثيرة هي الثّمار التي تتنازع القارئ نكهاتها، وهو يقلّب في سلّة روح الشّاعر، ومتنوّعة تأتي الأزاهير التي يتناوب نحله على ضوع عسل رحيقها، يغرف من بتلاتها غزلًا بريئًا حالمًا حينًا، يشكو منه سعير الفراق، ويتلوّى فيه على نار البعد عن الحبيب، تتآكله حرقة الاشتياق، في عذريّة خالصة يذوب لها قلبه، وتبكي فيها عيناه من اشتياق إذ يقول في قصيدة “جسد المعشوق” التي لا يوحي عنوانها الحسيّ بتجرّد موضوعها الرّوحي:

حكمَ الدّهرُ علينا غربةً

وفراقًا في سعيرٍ من عذابِ

وقضى أن نرتضي نار الجوى

ولهيبُ الشّوقِ في حمّى الوِصابِ

ونعيشُ العمرَ في مُرِّ النّوى

بينَ أشواكٍ وشكٍّ وارتيابِ

ويذهب الشّاعر العاشق إلى حبيبته، محمولًا على عرش منتهى لذّة الرّوح، لعناق يتخطّى الجسدين الظّمآنين إليه، نحو تلاق روحيّ، أبعد من حدود الجسد، ينعش لهيب القلب ببرد حضن يذوب فيه العاشقان، إذ يتابع ويقول:

من بعيدٍ عبرَ أمواجِ المنى

أعبرُ الأسوارَ في قلاعِ الخيالْ

أتمنّى غفلةً من ربعِها

لأزورَ الطّيفَ في عبِّ اللّيالْ

أرتمي ظمآنَ صادٍ حاصدًا

جسدَ المعشوقِ مطواعَ المنالْ

نتلاشى في عناقِ برهةٍ

تنعشُ القلبَ بلذّاتِ الوصالْ

        وتتبلور الحالة العشقيّة الرّوحيّة نفسها في “حُميّات الوصال” التي، ومن جديد يستعر عنوانها بنار الإباحيّة، ليأتي مضمونها عفيفًا طاهرًا إذ يقول الشّاعر في أبياتها الختاميّة:

وتلاقيْنا بأحضانِ السَّنا

مُلتقى الأرواحِ فيضٌ من جلالْ

من عناقِ وقبلاتِ الشَّفا

لانصهارٍ في ملذّاتِ النّوالْ

أقدسُ الأسرارِ شوقٌ لافحٌ

وتلاقٍ في حميّاتِ الوصالْ

 كما يتفلّت الشّاعر العاشق من سلاسل العذريّة ويفضّ بكارة الرّوح في غزل ماجنٍ عاصفٍ، حينًا آخر، إذ يدعو المعشوقة إلى لقاء حميم، يبثّ في رميم الجسد روح الشّباب، إثر التحام في أحضان الطّبيعة، في مشهد تصويريّ سينمائيّ دقيق ينبري الشّاعر يصفه، بل يصوّره بكاميراه اللّغويّة الحيّة إذ يقول عن حلول اللّيل، وظهور البدر، وجمال الرّوض، وانسياب ماء الغدير :

نامت عيونُ النّاسِ وانسدلَ الظّلامُ

والبدرُ أشرفَ ناشرًا فوقَ التّلالِ

نورَ المحبّةِ والسّلامْ

وتثاءبَ الرّوضُ الموشّحُ بالضّبابْ

مترنّمًا يشدو معَ الأغصانِ

ألحانًا عذابْ

ومضى الغديرُ يغازلُ البدرَ المنيرْ

تجري على جنباتِهِ

نسماتٌ عطّرَها العبيرْ

مشهد ساحر يتحرّك على الورق، يرسم في خيال القارئ صورًا تتهادى للبدر المنير، والرّوض المتثائب المرتّل، والغدير المغازل، يظهر فيه العاشقان في لقاء محموم من وصال مجنون يسطّره حقل معجميّ واسع للّذة، يشتبك ببريء الكلمات، إذ يتابع ويقول:

سمراءُ قومي ناوليني العودَ أعزفُ للورودْ

هاتِ اسقيني من ثغرِكِ الفتّانِ أسرارَ الوجودْ

فيتيهُ قلبي في متاهاتِ الغرامْ

وأحسُّ في ذاتي ارتعاشاتِ الرّجاءْ

وتدبُّ في روحي الحياةْ

قومي لنغزلَ من نسيماتِ اللّحونْ

ثوبًا يوحّدُ بينَنا

والحبُّ يدعونا ويغري بالنّوالْ

قومي هلمّي للوصالْ

 فإذا به في غمرة التحافه حضن الطّبيعة، واستحمامه بعبق أسرارها، تأخذه أحلام الغزل إلى سحر دنياها، فيعرّج على إسراء الحكمة، ويرتشف من فنجان عمره، عصارة تجاربه الحياتيّة التي أتخمته حقيقة، ووعيًا، وإدراكًا عميقًا لحقائق الأمور، فتضحى الأرض في طيّات ديوانه “مستشفى”، يداوي عاهات نفوس النّاس، من طغاة وجناة إلى مجّان ومجانين، غارقين في “الوحول الآسنات”:

أسير تائهًا على الدّروب المقفراتِ

وحيدًا تائهًا عبرَ الفلاةِ…

شقيتُ وللشّقاءِ أظلُّ دومًا

وفيًّا في الحياةِ وفي المماتِ

وأبحثُ كلَّ يومٍ عن حياتي

فأبقى ضائعًا في المُبْهَماتِ…

وهذي الأرضُ مستشفى يداوي

جنونَ النّاسِ طغيانَ الطّغاةِ…

مشافي الأرضِ تُنبتُ كلَّ داءٍ

لحاها اللّهُ من مستشفياتِ

وتتجلّى أسمى معاني “الحقيقة”، في قصيدة وسمها بالعنوان نفسه، تنفلش عناصر الحقل المعجميّ للظّلم على امتداد أبياتها، وكأنّي بالشّاعر يختصر حقيقة عذاب الإنسان في هذه الدّنيا، بخضوعه لظلم السّماء بكوارثها الطّبيعيّة، وظلم أبناء السّماء بجورهم وطغيانهم، نفاقهم وخيانتهم، بحيث تصير النّزاهة ضربًا من ضروب التّخلّف، ويصير الوفاء وهمًا من أوهام الإنسانيّة، ويغدو الصّدق مظهرًا من مظاهر الجهل، في عالم مسطّر ببنط الخيانة العريض، إذ يقول الشّاعر:

يا قلبُ ما بك كلَّ يومٍ تشتكي

ظلمَ السّماءِ وجورَ أبناءِ السّماءْ؟

نشرَ النّفاقُ على القلوبِ غمامةً

فترى الخيانةَ في الكلامِ النّاعِمِ

وترى الفضيلةَ بالخشوعِ وبالتّقى

أمستْ رداءَ الفاسقِ المتهدّمِ

والعابدُ المأفونُ باتَ عباءة ً

تطوي ثناياها فجورُ الآثمِ…

ويأخذه طيف الحلم، فيرى انعكاس بلّور النّهاية وجذور الرّوح وبقاءها، وتصفو روحه لتنخطف فتسمع شكوى الطّبيعة، وتتلمّس خيوط عبث الحياة. والغائص على درر ثمار الشّاعر، لواجد، لا محالة، معجمًا لامتناهيًا للرّياء والنّفاق، تحتويه ثنايا القصائد الحكميّة كلّها، فيتلمّس القارئ عند الشّاعر ومضات من خيبته في واقع الإنسان المرير بعدما نُسفت مبادئه، وفُجّرت فضائله، إذ يقول في قصيدة “الحلم”:

حلمٌ من الأعماقِ

يرقب غفوةً

من حارسٍ نشرَ

النّفاقَ على الدّروبْ

زرع الرّياء منارةً

فتفتّقتْ

وتضوّعتْ

ليلًا ينوءُ على القلوبْ

 ويسري في معراج الوجدانيّة الإنسانيّة، قبل أن يغوص في يمّ “أنا” الشّاعر بين النّور والملاحة والعقل واللّحن. ولكن لا بدّ للسّفينة الضّالّة أن يتلقّفها وطن ميناء، فكانت المشهديّة الشّعريّة خير ملجأ لضياع رؤى القارئ بين سحر الجمالات، إذ يقع الغائص على الثّيمات المتعدّدة في الدّيوان، على سرب من القصائد المحلّقة في سماء السّينما الشّعريّة، فتجد الكلام عنده يستحيل صورًا، والصّور حركة، والقصائد مشاهد سينمائيّة تُبثّ عبر الشّاشات اللّغويّة، في موسيقى شعريّة تصويريّة، يتابعها القارئ مسحورًا ببريق الطّبيعة، المكان الطّاغي على أكثريّة المشاهد، ووميض الأحداث المنسابة من أزاهير الحكمة، عبقًا تنتشي منه الأفكار إذ يشكو في “مرثيّة الأرض” بعد استغراق في مشهديّة طبيعيّة، تظالم البشر، وتمازقهم، وتحاقدهم، وينبري يبكي الأرض التي عاث فيها الإنسان فساده، ودنّس قدسها، وأحرق جمالها، قائلًا:

طوّفْتُ في شعابِ الأرضِ أرثيها

يواكبُ الرّوحَ في تجوالِها شجنٌ

فالشرُّ يقضمُها بالبؤسِ يرويها

أصبحَ الظّلمُ من أسمى مراميها

يمزّقُ البعضُ لحمَ البعضِ منتشيًا

وخمرُ شهوتِهم حقدٌ يغذّيهِ

وحوشُ غابٍ طغتْ ضواريها…

خليقةُ اللّهِ أمسى من أبالسةٍ

تعيثُ في الكون تخريبًا وتشويها

بئساكَ يا من تُحيلُ الأرضَ محرقةً

جسومُ أطفالِنا بخّورٌ يذاكيها

قصائد تذهب من تفرّد التّجارب إلى وجدانيّة شاملة، يشعر معها المتأمّل في أزاهير الشّاعر، أنّه متورّط بها حتّى النّخاع، إذ يصوّب الأخير سهام أناه ليبلغ صميم كلّ قارئ، بل كلّ إنسان، فيزوّده بالنّصائح ويحمّله المسؤوليّات ليحتفي ببراءة الطّفولة، ويقدّر رفقة الكتاب، ويجبر بخاطر المأفون، ويقدّس الرّفيق الحقيقيّ.

ختامًا، لروح الشّاعر أزاهير تبرعمت قصائد تلامس الوجدان، وتفتّقت ثمارًا تغذّي العقل، لعصارة حياة كاملة سكبها الشّاعر في كؤوس الأوراق، نتجرّعها ظامئين إلى الحقيقة، فنرتوي حلمًا، ونقتات عليها جائعين إلى الحياة، فنخرج منها متخمين بها.

تمارا شلهوب جاد

السيرة الذّاتية

تمارا شلهوب جاد

ماستر ٢ لغة عربية وآدابها

أستاذة ثانوية ل ١٧ عاما

مدربة لغة عربية في جمعية وورلد ليرنينغ العالمية

أديبة، ولها رواية بعنوان “امرأة في مهب الأزرق”

لها ديوان شعر منثور، ومجموعة قصصية تحت الطبع

شاركت في العديد من الامسيات الادبية، ولها رؤى نقدية في العديد من الروايات ودواوين الشعر

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmailby feather