(الحب في مرآة الشعر) بقلم الناقد رائد مهدي، من العراق قراءة نقدية عن المجموعة الشعرية (لي في العراق حبيبة) للأديب العراقي المغترب في كندا الشاعر الدكتور مديح الصادق.
1 min read(الحب في مرآة الشعر) بقلم الناقد رائد مهدي، من العراق
قراءة نقدية عن المجموعة الشعرية (لي في العراق حبيبة) للأديب
العراقي المغترب في كندا الشاعر الدكتور مديح الصادق.
أَولى الناس بحبّ الحياة المبدعون وسيد الإبداعات الحبّ؛ فهو اللغة المشتركة بين كل الكائنات على اختلاف تعابيرها، أيها الإنسان لن تفهم الحياة حق فهمها مالم تشعر بالحبّ نحوها وتتقبلها على علاتها.
لقد حظيتُ بشرف مطالعة المجموعة الشعرية (لي في العراق حبيبة) المجموعة التي تم التقديم لها بقلم الناقد الأديب المصري د. مختار أمين، الذي قال فيها عن الدكتور مديح الصادق: “إن الإنسان الجنوبي هو العرق الأصيل لأي بلد في العالم، هو أصل الهوية، فأديبنا ويقصد (الدكتور مديح الصادق) ابن أصل، أي أنه عراقي أصيل المنبع والجذور”.
ويقول أيضا: “إن قصائده نحتت بيد مثال متعبد من ماء نهري دجلة والفرات”. يقول أيضا عنه: “إنه شاعر لماح موهوب”. ويقول فيه: “إنه صوت الحق الصارخ بوجه الظالم”.يتحدث أيضا عن احترافية الشاعر: “إنه كان محترفا في خلق صور جمالية وإبداعية في كل قصيدة”. وعن أدوات الشاعر يقول: “كانت أدواته ثرية في استخدام كل ماتحلّى به من جمال بساتين اللغة واختيار ألفاظ ذات دلالات واسعة”. ويصف المجموعة الشعرية مُشبهاً إيّاها بالبساتين والجنان، واصفاً أسلوبها: بأنها “كتبت بأسلوب رومانسي حر”، ويقول أيضا: “بين كل مقطع وآخر نرى الحكمة وفلسفة الأحداث بفكر ووعي وإبداع الموهبة الشعرية”.
بعد أن مررنا بإيجاز على آراء صاحب مقدمة الكتاب بالمحتوى وبالكاتب، آن لي أن أدلي بدلوي المتواضع عن مجموعة شعرية بدت لي كترنيمة حبّ تتغنى بالعراق وتتخذ منه وطنا للحبّ و للحبيبة، ومساحة يسكب بها الشاعر حبّه الذي يشكله قصائد؛ وإن تنوعت بها العناوين والسرد لكنها تتوحد بموضوع الحبّ.
إن الحدث الأساسي في المجموعة هو الحبّ، وكل التفاصيل المتنوعة إنما هي متصلة بهذا الحدث الأساسي اتصال الفروع بالأغصان؛ لذا فهو العاشق المتعبد الذي يُنشد أسمى مصاديق التواصل القلبي العميق في نصه (صلاة في حضرة الحبيبة)، إن اختيار الشاعر للحبيبة معبدا يقيم به صلاته إنما هي دلالة لقدسية الحبّ الذي يدعو إليه، فهو يضع الحبّ قربانا كما الصلاة قربان، وفي حضرة الحبيبة يتطهر من كل ماسوى الحبّ.
وإلى نصه الثاني (الحبّ عبودية) حيث يتجلى لنا إعجازه الشعري ذلك الذي يقوم بتحويل ماهو غير مألوف إلى مألوف، فالعبودية بمفهومها العام بالضدّ من الانعتاق والتحرر؛ لكنه جعل من العبودية في الحبّ شيئا ممتعا ولذيذا، وجعل منها سلوكا بناء يحفظ للأشياء قدرها ويحفظ للمعاني قيمتها، فالحبّ الذي يدعو له الشاعر بهذا النص يبدو كالسحر الذي من خلاله يتحول ماهو مرفوض إلى مرغوب، وذلك التحويل هو ثمرة إبداع ومجهود خلاق وعمل مستحق للإعجاب ومثار دهشة للمتأمل.
وعن نصه الثالث (لي في العراق حبيبة) ذلك النص الذي جعله عنوانا لمجموعته، الذي عدّد به الشاعر أزمنته فبدأ من زمن لبيت عتيق بناه له جده، وينجرف إلى زمن آخر من أزمنة الشعر يمتد لألوف من السنين، فيرى في عينَي حبيبته قصصا لشهرزاد وشهريار وملوك سومر وآشور، وبمهارة المتمكن من الإبحار على أبعاد الزمن ينقلنا الشاعر إلى زمن الحلم، وبوعي منه في زمنه هناك يمزج ماهو حسي بماهو وراء الحس والشكل، إنه تماما مثل ذلك التمازج الكوني للمادة المتشكلة على مساحة لاشكل لها؛ فيداخل الوجود بالعدم، ولأنه شاعر خلاق فهو يمازج وبمهارة عالية بين الرغبات الحسية التي تنتمي لعالم الواقع مع مساحة شاسعة من الخيال والحلم.
إن عملية الإبداع الحقيقية تنم عن قدرة تشكيل المعنى على أية مساحة كاملة، ومن خلال أي بعد من أبعاد الزمن؛ لذا يشهد هذا النص بالإبداع والتمكن لشاعرنا وبقدرته الخلاقة على صناعة وتشكيل هياكل المحتوى ومضامينها على أبعاد دون تفاوت ولا فوارق مبينة أوان تنقلاته بين تلكم الأبعاد والأزمنة.
في نصه (حبيبتي ووجه الوطن) يجعل من وجه الحبيبة مرآة تعكس وجه الوطن من خلال عينيها، إنه يداخل الكبير والصغير في هوية واحدة، وهو يتحكم بمساحة المعنى في نسق جمالي يخلو من المبالغة في الإيحاء رغم انبثاق الوجه الكبير من الوجه الصغير إلا أنها في الشعر معجزة مقبولة واستثناء يبرره القصد.
إلى قصيدته (غنِّ يسقطْ هولاكو) ففي لوحتها الأولى أبرز مالفت انتباهي أنها تنكر على الأطفال أنهم شاخوا ولم يحبوا بعد، وفي لوحتها الثانية تضمنت دعوة للغناء لأنه الصوت الذي يهز وجدان البشرية أسرع من كل النداءات، ويقرن الشاعر هنا صوت الغناء بقيام الحضارات مما له من دور في إحياء ذائقة الجمال في النفس البشرية وبث كل مايلزم للتحضر من خلال الحبّ الذي سيطيح بهولاكو وقيمه الظلامية المعادية للحبّ وللجمال والتحضر على حد سواء.
في نصه (باقة ورد لأمي) يتخذ من الطبيعة امتدادا للأم ، يصفها بنبع المحبة كذلك يتخذ من الفرحة والبسمة أُمّا له، كذلك الحال مع الديمة والبحر.
في نصه (راحلون) يتفنن في لوعة محبته للوطن ومع عظيم لوعته لم يفقد الأمل بالعودة حتى نهاية النص.
إلى نصه (قصة مجنونين) فيبرع الشاعر في سرده لآراء المجتمع بالحب وبالعشاق ويعلن عن موقفه أزاء تلك الاتهامات التي يقف على رأسها الجنون.
في نصه (عادت ليلى) الذي يعلن في مدخله عن أخوته في الحب للفنان العراقي كاظم الساهر وتتضمن رسالة لكل العشاق والمعذبين بفراقهم لبعضهم طوعا وكرها ألاّ يفقدوا الأمل والإبقاء على نوافذ الأمل مشرعة بوجه رياح العودة بعد الغياب.
إلى نصه (صدى المنافي) القصيدة التي ذكر بها سولاف وماري وسمر، القصيدة التي خصصها مساحة يعلن من خلالها الحنين لعائلته ولكل أثر منهم، القصيدة التي يستنطق بها الأثاث وأشجار الحديقة ويدون من خلالها ما يمكن أن يشعر به المرء بمنفاه القهري، خليط مشاعر من محبته لأسرته وآلام البعد عنهم.
إلى نصه (محكمة القرية المتحضرة جدا) يتطرق للمعاناة في الحب التي تطال الشاعر المحب وعن القيم المنافية للحب في محكمة فقدت عدالتها منذ أقصت الحب عن موازينها.
إلى نصه (صغيرة على الحبّ) يتطرق لعدم النضوج في الحب وأعني بذلك الحب الفجّ ومايترتب على ذلك من ثمر ليس في أوانه ولايفي بالغرض.
إلى نصه (صديقتي) هنا تكون الصديقة هي الحبيبة وببراعة الشاعر فهو يجيد ذلك التحول وباحترافية عالية يصف آلام ذلك التحول في العلاقة وعدم القدرة على الرجوع من حالة الحبّ إلى الصداقة من جديد. إنها لَمِن إبداعات الشاعر اختباراته المتنوعة وقدرته على الوصف الدقيق لتلك التحولات في العلائق.
إلى نصه (امرأة من ماء وطين) عن فتاة تعشق بكل كيانها بغية الارتباط الحقيقي الجاد وحسب.
إلى نصه (راحلة) النص الذي يتحدث فيه عن الحبيبة الملهمة وأنها مصدر للإلهام لديه.
إلى قصيدته (ميشان) عن المدينة التي كانت ومازالت إلى الآن حبيبته التي ستبقى كل الدهر حبيبته على حد وصفه لحبه لها.
إلى نصه (إيَّاكِ أعني) الذي يدعو من خلاله للوضوح في الحب، وعدم اللف والدوران، وكانت الجارة هي الحبيبة التي يشير إليها دون اختباء ولا من وراء حجاب.
إلى نصه (لغة العاشقين) وفيه يكشف عن شاعر مقتدر على فهم أكبر قدر ممكن من تعابير لغة العشق ويستجيب لها، بعيدا عن مألوفات العقل والمنطق، فهو يستشعر أثر حبيبته كما كان مجنون ليلى يستشعر ذلك من خلال الجدران التي سكنتها حبيبته؛ فكل ما لامَسَ الحبيبة وكل ما كان متصلا بها؛ فهو علامة دالة ونقطة تستثير وعي ذلك الشاعر العاشق.
إلى قصيدته (علبة دخان) التي من خلالها يعلن البقاء للحبيبة بعد أن تمحو الحياة كل آثارها من قلب العاشق.
إلى قصيدة (قولوا لها) عن امرأة أحبها وأراد التواصل معها عبر آخرين، وهي نموذج للتواصل غير المباشر في الحبّ؛ يمكن أن نسميه بالتواصل الحذر والمحفوف بنتائج قد تكون غير حاسمة للموقف.
إلى نصه (تراتيل الدماء) الذي سطر به الشاعر شيئا من قناعاته التي لها مايبررها بالتأكيد وماقامت عليه من دواعٍ.
إلى قصيدته (دم في السماء العراقية) القصيدة التي يكتب فيها عن حبيبة مغطاة بالدم، عن بلاده ووطنه وأرضه المستباحة عقليا من قبل كسرى والمستباحة خيراتها من قبل هولاكو العصر.
إلى نصه (اعترافات سفاح يحتضر) التي احتوت مجموعة كبيرة من الاعترافات، لكن كان أجملها على الإطلاق هو اعترافه الذي يقول فيه: “الكادحونَ همُ التُقاةُ، والمساكينُ خيرُ العِباد”.
إلى نصه (مبارك… مبارك… فازت قائمة الشهداء) نفهم منها أن الشهداء هم خير ممثل للوطن، لأنهم أكثر الناس تضحية وأقله استفادة وهم الذين وهبوا للوطن أغلى مايملكون لذا فهم الأَولى بتمثيله ومن يسير على هداهم ويقتفي آثارهم.
آن لي القول إن مجموعة (لي في العراق حبيبة) هي تجربة غنية بمعاني الحبّ، لم يخلُ نصّ من نصوصها من الحبّ وهكذا كل الكتاب.
لقد وفق الشاعر من خلال اختياره للحبّ مادة شعرية يطرحها للمتلقي في كل مكان؛ في وقت نجد به البشرية في أحوج مايكون للحبّ، وبدافع الشعور بالمسؤولية تجاه الحياة والأوطان والإنسان، ومن خلال دافع الحبّ الذي يؤسس لتلك التوجهات.
بالرغم أن الكاتب يدون شعرا تجربة شخصية وخبرات حياته في محور الحبّ؛ إلا أن تلك التجربة كانت عبارة عن عملية نقل محتوى من العقل الفردي إلى العقل الجمعي، وباعتبار أن الفرد خلية واعية في جسد المجتمع الواحد، بذلك يمكننا توصيف ذلك النقل بأنه عمل أخلاقي قبل أن يكون إبداعيا، ولايفوتني القول إن الأخلاق هي نوع من الإبداع في فن المعاملة وعبر قنواتها يمر الإبداع الإنساني نقيا إلى وجهته ومقاصده.
إن الشاعر قد أجاد في نصوصه كل أدوار الحبّ؛ فلم يكن هناك موضع لم نجده به العاشق الملهم والمعذب بلوعة الشوق والحنين، وكان يحث المحبين لوطنهم لحمل سيف الغناء والفن فهو أعظم وأبلغ من كل السيوف في اجتثاث العتمة، وقطع دابر الظلام وتمزيق هولاكو سيد الظلام.
إن الشاعر يعطي للإبداع دورا لحماية الحياة وصيانة إنسانها من انحطاط الذوق، هو يقرن الغناء بالتحضر فلا حضارة من دون غناء، وما أعظم الغناء حين يكون للحبّ وبدافع الحبّ.
بالرغم من أن موضوع الحبّ قد خاض به الكثير من قبل؛ إلا أنه يبقى معينا لاينضب وموضوعا لايفقد قيمته على مرّ الأجيال، ولاتذبل تفاصيله مهما تقادمت السنون؛ فكلّ الأجيال تكتب للحبّ؛ لذا كان اختيار الشاعر لهذا المحور بالذات موفقا لأنه يتحدث في موضوع أهميته قائمة وعلى أشدها.
كذلك كانت نصوصه سلسة سهلة التصور لاتتعب القارئ عند تصور معانيها وإن كانت بعض النصوص لاتخلو من رمزية لكن في نهاية كل قصيدة يمكن للقارئ وبيسر من فك الشفرة وتصور المدلول الذي يرمز إليه الكاتب من خلال دالته.
من المناسب أن أعرب عن فائق سروري وعظيم امتناني لمنحي شرف القراءة النقدية لهذه المجموعة الشعرية التي أقل ماأقوله عنها:
إنها عمل إنساني لغته الشعر ومضمونه الحبّ.
أما شاعرنا الدكتور مديح الصادق؛ فهو العراقي الذي لايعرف غير الحبّ وجهة، وهو المبتلى بحبّ الوطن وعشق الأرض.
هو الشاعر الذي يصور الحبيبة على كل شيء جميل ومع كل التعابير مرهفة الأثر.
هو الذي يتفنن بتقديم الحبّ، يُشكِّله على صور شتى، ويتفاعل معه بطرق متنوعة، لم ينفصل عن الحبّ في كل نصوص مجموعته، هذا الإتصال مع الحبّ هو اتصال مع مصدر غني بالجمال، وبكل مايغني الذوق ويسمو بالإنسان نحو الوعي الراقي والإدراك المميز لجماليات الحياة والوجود.
by