(غدُكَ سعيدٌ، أيُّها الإنسانُ الحزين). بقلم منصوري إكرام من الجزائر
1 min read(غدُكَ سعيدٌ، أيُّها الإنسانُ الحزين).
بقلم منصوري إكرام من الجزائر
صباح الخير إلى كل من علق في القلب… ولكل من مرت بنا أطيافه لتوقد وهج الذكريات بدواخلنا.
صباح الورد للراسخين في الطلب، الجادّين الفعالين في حضورهم .. الماضين قُدُما نحو العطاء .. المتأنقين في مرورهم .. خِفاف الخُطا والوَقع … رقيقي المُهَج والأحاسيس …
إلى جميع من أصبح في سعي حثيث ليحقق ذاته و يُحدث فرقا في مجتمعه أقول لكل هؤلاء:
عِمتُم صباحا و طابت أوقاتكم.
دعونا نفتح موضوعا لطيفا يداعب أرواحكم المُثقلة، إنّنا حينما نتحدث عن طفولة القلب نكون بصدد الكلام عن نوع من الحنين الملازم أبدا للإنسان؛ شوقه لأطوار نشأته الأولى و هو في رحلة الصعود على سُلّم العمر؛
لكنه ينسى أن الروح لا تشيخ بل تظل تحيا في كنف التّسامي المتواصل الذي يكفَلُ لها حقيقتها و يبرز بجلاء جوهر تميزها عن بقية عناصر الوجود.
والقلب المؤمن التّقيُّ الطّيب لا يذبل كما تذبُلُ قسمات الوجه بل يزداد تماسكا وصِبََا و سعادة في علاقة طردية تتزايد وتيرتها كلما ارتفع منسوب يقينه بخالقه و رضائه بقضائه .
أمّا العقل السوي فهو ذلك الذي يحسن اقتفاء خُطا الشرع على بصيرة و بنور من العلم و الوعي و الحكمة و المنطق،وهو الذي يرى في استمرارية تعلمه واجبا مقدسا و يُقدِّر أن سعادة العالم في ما ينتجه من معارف نافعة، و لا يأنف من خطئه إذا ما وقع في الزّلل بل يردد بعقيدة راسخة: القصور أحد أوصافي والصواب مرهون باستمرارية المحاولة و إدامة النظر و إنْعامِ الفِكر؛ بينما التّلكُّؤ و التّقاعس عن المهمة التي كُلِّفتُ بها منذ سابق الأزل هو أقصى آفاتي ووصمة عار لا تغفرها البشرية .
لا يكابر أو يعاند أو يرفض السيرورة الطبيعية لمساره و المتمثلة في قابليته لتزايد نضجه و انفتاح مداركه مع الأيام .
العقل السعيد الذي تَسْعدُ به بقية الكائنات هو من يوقن بحتمية الإبداع في دنيا الجمود و يؤمن بتفرده وسط غثاء بعض الأفكار التي تشبع بها العقل الجمعي .
والآن هلاّ أخبرتني أيها الإنسان ما الذي يجعلك حزينا هكذا إلى حد اعتزال كل مظاهر الحياة؟ و ما الذي يستحق أن تدفن من أجله نفسك ، أفكارك ، أحلامك و جميع الأشياء التي تحبها في قبر الصمت؟
فعلا إن للصمت سلطة جبارة إذ يجعلنا أشبه بالأموات في بعض خصائصهم ، فالصمت إشعار بحلول كل النهايات ما علمنا بكنهها و ما جهلناه ، كذلك له وجه آخر يحمل البرهنة على النكث بالوعود التي كانت تزهر لها القلوب وفيه بقايا من شائبة التخاذل و الخذلان .
أمّا عن أنْفَسِ سِماته أنّه في حضرته يعلو صوت العقل والتفكير المنهجي الصائب، فتتسلّلُ الحكمة من خِدرها و يُعلن الفِكر بجرأة عن نفسه سابحا بين محيط ذاتيته و فَلك الكون الخارجي.
كما أن من جُملة محاسنه أنه تارة تُبنى على أنقاضه جسور جديدة نحو مدن أكثر جمالا … أوسع معرفة وأقل حزنا ..
* مساء النغم *
مساؤكم شجي بألحان الأوبة للذات في تناغم بين تفاصيلها وحيثيات جنباتها .
من قال أن قناعاتنا لا تتغير، ومن قال أن ما كنّا ندافع عنه ذات ظهيرة بكل تفان وحرص وحب وحماس وصدق وانغماس كُليٍ في معانيه لن يتغير ويتبدل إذا ما مرت به عواصف صيفية هادئة لكنها كفيلة بهز أركانه و إبراز خلافه؟
في بعض الأوقات ثمة أفكار تخطر علينا في لحظة ليست كلحظات زمننا الذي نعيش فيه بل هي لحظة خاطفة لا تشبه الزمن ولا تُقاس بوحداته؛ تجبرنا على إعادة الأسطوانة المتآكلة للوراء لنعيد سماع ما كُنّا نحسبه (نشازا) فيتبين لنا على حين غرّة ضعف إحاطتنا بالأمور و حقيقة تطور حاسة الفهم و التحليل لدينا كلما مرّ بنا العمر.
عذرا يا نفس عن عمى مكلل بريح الوصل أصابك ذات لحظة ومافتىء أن أبلى عظامك وصارت رميما، وأسقاك كأس مزج بنقيع المرارة حينا، وأذاقك من ألوان الواقع ما غفلت عنه مدة وسنينَ… سنون لا كسنواتنا بل سنوات طعمت واستسقت منك طويلا.
و لْتعلم أيها السائر في ممرات الحياة و أزَقّة العيش أن الحزن حق أصيل للإنسان ينبغي عليه أن يتقبله و يتعايش معه وألا نحتم عليه ان يكون فرحا ومبسوطا رغما عنه ففي ذلك تحسيس له بعدم أهمية ما أحزنه بيد أنه يجد ذلك مهما بالنسبة إليه.
إنّ سرّ التشافي يكمن في إعطاء أنفسنا حقها في فهم مشاعرها و التفاعل معها و استيعاب حالتها النفسية.
أما على الضفة المقابلة فيجب علينا أن نكون منصتين جيدين نتحلى بروح التفهم للآخر و بفضيلة احترام مشاعره، و نعترف بحقه في أن يعيش تلك الفترة بكل تفاصيلها لا أن يتجاهلها وهي لازالت توجعه ففي ذلك خطر كبير للأسف لا نعيه الا متأخرا… إنه خطر التراكم والارتداد والعودة للماضي بكل مشاهده وقتها يستعصي العلاج و تنأى خطوات الشفاء.
يوجد أمر آخر مهم نحن كبشر غالبا ما نصاب بالتعاسة لأننا نغفل و نذهل عن تفاصيل صغيرة في دنيانا لكنها كفيلة برفع المرء إلى سماء الابتهاج و دنيا التفاؤل، و صحيح أن الحزن حق لكن في تقبله و التعايش معه حكمة قد يتولد عنها الأمل و ينبثق من منافذها النور … والرضا خير ما تطيب به الحياة … بينما الفرح اختيار.
*راحة آخر المساء *…
كم أرتاح و تطيب نفسي من كل ما أهمَّها و كدّرها لمّا أشاهد حواديث و حكايا عن الشام ،عن دمشق .. ترجع لزمن الأفندية و الانفتاح الجميل و الملابس الأنيقة و الأنوثة الفاخرة المليئة بالحياء و حسن انتقاء الكلمة و الضحكة والمشية و التطلع للعلم وزمن الياسمين الشامي العبق و الورد المُعتّق و رائحة الأرغفة الطازجة والأولاد يلعبون بالحارات و بائع الكعك حولهم بعربته الصغيرة ينادي (أطيب كعك، طازة يا كعك).
الأطفال يتهافتون حوله و يتدافعون أيضا على بائع (المِلَبِّس) و (الرّاحة) و(السّكاكر ) و (قصب السكر) بينما البنات يتحلقن حول عربة (غزل البنات) …
و الطلبة ذاهبون إلى جامعاتهم في وقار و كلامهم كله حول أوضاع البلد والأحزاب و كيف يخرج الإنجليز من شامهم و كيفية استعادة فلسطين…
أمّا البنات فيسرن في حياء مرتديات اللبس المحتشم الذي يعكس الأنوثة مع وردة في الكتف منسجمة مع لون الطوق الحريري الذي يلف الرقبة بنعومة أو طرحة تغطي الشعر مع إيشارب ساتر .. يتحدثن عن شعر (وَلاَّدَة بنت المُسْتكفي) أو عن تجارب نسوية رائدة في طلب العلم و التحرر من ربقة الجهل و العبودية و الاستعمارز.. يتناولن في رقة الحرير موضوع ضرورة تنظيم الصالونات الثقافية و الشعرية، و كل منهن تسعى لتتخصص في ما تُقدِّر أنها ذات باع و تمكُّنِِ فيه.
وهناك على الضفاف تنشأ حكاية حب جميلة نظيفة تتوج بأحلى الأقدار…
الآباء الطيبون في متاجرهم و عملهم و الأسواق مليئة بالنساء المتشحات بالوقار و الأصالة و أناقة الحديث مع الغريب قبل القريب.
في البيوت صحن الدار مليء بقطرات الندى و بتلات الورد و الياسمين… والسُفرة عامرة بخيرات الله على عباده و بلاده الشماء.
إنه عبق ذكريات تعود لزمن جميل بل بارع الجمال ،باهر الحسن، رائع الحلاوة، فارع القامة و القيمة التي وَسَمت حضارتنا بطابع الحُسن ، لكن عيبه أنه لم يعد يرغب في الرجوع لأن بعض البشر ما عادوا نفس البشر… تغيروا وبشعت أخلاقهم لهذا تهاووا و سقطوا من هالة الجمال إلى قاع القبح.
أما ذلك الذي لايزال يتصف بشيء من هذا الرقي تجده يبكي و يحن و يئن ويرتاح في نفس الوقت لما يشاهد من أعمال فنية تعيد احياء الذوق الأصيل الحلو في النفوس.
ختاما بعدما قضيت يومي معك أطوف بك بين متغيرات الزمان و المكان، أستخرج من أعماقك دفائنك المبجلة و كنوزك التي صممت على استبعادها من مُجريات حاضرك و أحوم بخواطرك في دروب الحقيقة و حَواري الحب وعواصم الجمال هأنت ذا أيها الإنسان الكبير تُعيد ترتيب أوراقك في صمت مجددا- كأنه قدرك المحتوم- على مشهد حلول الليل.
by