يعيش النظام للأديب الدكتور محمد إقبال حرب.. تقديم الكاتب: معز نعيجة
1 min readعندما طلب منّي الصديق وليد اسطنبولي تقديم كتاب يعيش النظام للدكتور الأديب محمد إقبال حرب، اعتذرتُ. فالرجل قامة كبيرة في عالم الأدب… وأنا… في عالم الأدب… عابر… كتاب. استنجد وليد اسطنبولي بنقطة ضعفي… امرأة… وعندما تخاطبك امرأة في مكانة ونضال الأستاذة الفاضلة حياة الزرماطي…حياة الزرماطي المناضلة المستميتة من أجل الكتاب والحث على المطالعة وتقديرها الكبير للمبدعين… ثم تذكرني… أنني سبق أن قدمت كتابا… وبالذات لديها… في معبد الكتب والمطالعة في سوسة… المكتبة العمومية، فتصبح الأعذار واهية… والاعتذار هروبا… وكان عليّ بالتالي إعادة قراءة الأثر… يعيش النظام… قراءة متأنّية بنظرة مغايرة لقراءتي الأولى…
قراءتي الأولى كانت ملامسة قارئ عادي، بمتعة قراءة عادية… وعليّ الآن التمعّن والتدقيق والدخول في أعماق النص، وأنا الذي ما خبرت في حياتي سوى الكثير من الهندسة، والقليل من الأدب… كتابة بطبيعة الحال… وأفتقد بالتالي إلى أدوات تحليل العمل الإبداعي الأدبي والقراءات النقدية. قلت يالله سأقرأ هذا الكتاب من جديد كمهندس… عمق اختصاصي… رغم أنّني على يقين بعدم توافق أدوات تحليل العمل الفنّي والنص الإبداعي مع “ديكارتية” النظرة الهندسية… ومع ذلك قلت سأخوض المخاطرة وسأعتبر هذا الكتاب جسرا… أو قل قنطرة… والقنطرة هي الحياة… كما كتب يوما الراحل مصطفى الفارسي… ورأيت كمهندس في كتاب يعيش النظام… قنطرة بين قوة الحجّة في رسم هموم ومشاعر المواطن العربي المكبل بخطايا وآثام الحكام والمنظرين وشيوخ الفتن… و… وجمال اللغة… ورنة التعابير التي أبدع فيها الكاتب.
قنطرة… لما لا… ثمّ قلت لما لا أعتبر هذا العمل بمثابة السدّ… مثل سدّ المسعدي… نعم… سدّ منيع أمام النظريات الهمجية والتأويلات الخاطئة والمغالية في التعصّب… للدين ومفهوم الوطنية… تلك التأويلات التي يفضحها الكاتب بلا رحمة ولا شفقة… يعريها كما هي بقسوتها ووحشيتها التي تتحفنا بها وسائل الإعلام عبر مئات الفيديوهات والأخبار عن جرائم الهمج المأجورين… وآخر ابتكاراتهم في ميدان الجريمة وإذلال الذات البشرية مثل القتل والذبح وحرق الأحياء وسبي النساء… وما إلى ذلك… كل ذلك باسم الدين وبصرخة الله أكبر – الله أكبر- عنوان حكاية انتحاري يحوّل الناس أشلاء في سوق مكتظة… «انتحاري… نذير» كما يقول المؤلف «نذير جاء بحزامه المفخخ ليفتك بأبناء الوطن جميعا… أبناء وطنه الكفرة على بكرة أبيهم، وهو المؤمن الوحيد فيهم»
أو بتعلة حماية الوطن تحت راية “يعيش النظام” في القصة التي أعطت عنوانها للكتاب… بيعيش وحتى يعيش النظام تدمر قرية لم يقبل وجودها المكان… ولم يسع الزمان فقرها وهمومها… قرية تعيش على هامش وطن، في المنطقة الفاصلة بين اليأس والعدم… يُسحق شبابها… على بكرة أبيهم ويُقتل آخر الناجين، العجوز المسالم… ليه… حتى لا يخبر الأعداء بما جرى، وليعيش النظام…
الأعداء… العدوّ الذي خرج منا… من ذواتنا… العدو… كما يقصّ علينا محمد اقبال حرب موجود فينا متغلغل في وعينا… او بالأحرى في لاوعينا.. فمن أين الوعي والوطن يلتهم أطرافه.
“الله أكبر” و”يعيش النظام”، قصّتين من جملة 33 قصة، أو أقصوصة أو نص… تحمل في ثناياها هموم الكاتب… وهموم مثقف عربي ورؤيته المتبصرة الموضوعية لواقع الوطن… في ظل تراكم الانحرافات الفكرية والعقائدية والسياسية… وانحراف الممارسات اليومية للفاعلين – وهم بذاتهم… الفاعلون… وفي مستوى آخر… مفعول بهم- في دفّة المشهد السياسي… والثقافي والاجتماعي.
يعبّر… أو ينقل لنا محمد اقبال حرب على مرّ النصوص التي صيغت ببلاغة كبيرة… عجيبة… وبأساليب متعدّدة…. عن هواجس المواطن العربي في مواجهة الهزيمة… الهزيمة الحضارية… ابتداء من الاستعمار ومخلفاته… الاستعمار المباشر والمقنع، والاحتلال في قصة “عتبي على الليل”، واستبداد الأنظمة الدكتاتورية، والتعذيب، والحرب الأهلية… أو الحروب الأهلية بما أنها اليوم تبتلي أكثر من شعب عربي.
ويتناول ما آلت إليه ثورات “الربيع العربي”… ومصيبة المصائب… نكسة الفكر والعقل والتاريخ… عندما اسْتُعْمِلَ الدين في غير محلّه… عندما استعمل الدين لنشر الجهل وتمكين التخلف في وطننا وتبرير أكثر الممارسات وحشية في تاريخ البشرية.
33 قصّة… تصوّر العنف الذي نخر المجتمع العربي، يتناولها الكاتب حينا بالترميز، وأخرى بالإيحاء… وعادة بالاختزال الشديد،… ويستعمل مع الإيحاء أدوات متنوعة كالسخرية، والتهكّم… يستعمل هذه التقنية لينقل الواقع بفظاعته… بل لعلّه ليحرض على فاعليه… وهذا ما رأيته أساسيا في كل نصوص المجموعة…
يعتمد محمد اقبال حرب في هذه الحرب الضروس التي يعلنها ضد الجهلوت والظلم والاستبداد… لغة رشيقة… بتركيبات فنية عالية الجودة، خفيفة على القارئ… رغم… أنها مثقلة بتوصيف القبح وقساوات الحياة وغباء البشر…. مثقلة بمأساة الشعوب المستعبدة من الداخل والخارج… ومنهكة بمأساة وطن أفقدة الرعاع بوصلته وأغرقوه في مستنقعات الجهل والتخلف، والانحراف في فهم الدين وتأويل النص المقدس على غير ما يحتمل وبما يتناقض مع فطرة الإنسان… واستعمال التأويلات الخاطئة لتبرير العنف والإرهاب وتقتيل الأبرياء ومحاربة الإنسان ودحض مقومات وجوده الحضارية وقيمه الكونية التي صاغتها البشرية على مرّ الأزمنة بتطور الفكر والتجربة الإنسانية.
ويستعمل كذلك… على ما بدا لي… الدكتور محمد إقبال حرب، مراوغات لغوية فريدة… جميلة… لتفكيك العمق النفسي لشخصياته ووضعها الاجتماعي والثقافي، سواء كانت هذه الشخصيات ضحايا مسلوبة الإرادة أو كانت في موقع الجلادين… أيضا شخصيات تظهر مسلوبة الإرادة رغم قسوة قلوبها وأفعالها، كما يظهر ذلك جليا في نهاية قصتي “قرابينَ السخْمَاطِ والأرجوان” وقصة ” ألله أكبر”
ويتحكّم الكاتب… أيضا… ببراعة كبيرة في اللغة… والمفردات… لتوصيف القتل والدمار والتعذيب… ولكنه… وهذه المفارقة التي أبدع فيها… يسعى من خلال رسمه لتلك اللوحات العنيفة والمعقّدة… إلى بث مفهوم التعايش بين البشر… ويركز على البعد الإنساني في مقاربته الإبداعية… ويعلي من شأن مفاهيم الحرية و الديمقراطية وحرية المرأة كما يظهر في قصتي ” شرور المرأة” و قصة “نهاية قلم”، مثلا.
إذن يحتوي… أو تحتوي هذه المجموعة على 33 قصة أو أقصوصة… تكاد تكون فكرتها واحدة، أو قل تحمل مجموعة أفكار موصولة ببعضها البعض… 33 قصة كأنها لوحة واحدة ضخمة رسمت بنفس الألوان الداكنة، وتحتوي على مشاهد عدة متواصلة ومترابطة، على شاكلة لوحة “الجحيم” لبوتيتشلي أو نمنمة رودان “باب الجحيم”، الموضوعة على واجهة متحف أرساي في باريس.
مشاهد رهيبة… تجعل المتأمل فيها يعيش اللحظات الصعبة… نعم… في سوق الرق والعبيد… مثلا… أين يباع الإنسان على ناصية التاريخ… أو عند الأمير الموعود بالجنة… الذي استأثر بأجمل السبايا ثم قرر قتل رفاقه… ليه؟… لأنهم انهالوا من الفاتنة بصرا… وأجرهم بطبيعة الحال… في الجنة مضمون… فهم بفتوى أميرهم الذي قتلهم شهداء… أو إهانة الذات البشرية بتعذيب وحشي جعل الجلاد ينزع الآدمية عن أخيه الإنسان ويجعله أكثر انحطاطا حتى من الكلب في قصة “عو عو”.
صور بشعة… ليست غريبة عن مشاهداتنا اليومية، في حرق البشر أحياء… في قتل من هم على غير دين مالكي مفاتيح الجنة… مباشرة أمام كاميرات التلفزيونات…. عن ذلك الذي يسرق شاحنة ويدوس بها الآمنين… عن رعب شهادات التعذيب التي صدمتنا عندما نطق بها الضحايا…
صور يوقف فيها الكاتب الزمان… ويدخل في أعماق تفكير فاعليها ويحيل قارئه على البحث لتفكيك ألغاز هذا الانحراف الخطير.
عدد القصص كبير نوعا ما… 33… 33 نص يتجاوز عادة معدل المعمول به في المجموعات القصصية… معدل حجم القصة أربع صفحات… أو أربع صفحات ونصف.. وكالتكثيف في عدد النصوص… استعمل الكاتب تقنية التكثيف الخاصة بالقصة القصيرة وطوّع لغته لتتجاوب مع مقدرته على الإختزال…. …. فبنا نصوصه معتمدا على لغة متقنة… وحبكة مقتصدة… ومعان عميقة جدا ولكنها موجزة.
وهكذا خرجت إلى القارئ هذه النصوص خالية من الحشو والزيادات والوصفيات… تجنب كاتبها الإستهلالات… كما غابت فيها التمهيدات… فكان التركيز على الخط العام للفكرة والهدف المنشود في إيصالها إلى المتلقي…
فكان الخط العام للعمل متناسقا… مركّزا… دسما اعتمد فيها الكاتب مهارة عالية في السرد فبسّط مشاهد فضاعات التطرف والغلو والتعصب… والجهل والغباء… ونقَل أوجاع وآلام… الضحايا… الذين هم بالأساس نحن… المجتمع العربي المهزوم… الفاقد لمعالم الحياة.. الذي تفلت منه قيمه بين يده عن طريق شرذمة من المخبولين سياسيا أو دينيا.
لا أنكر أن المجموعة قاسية… صور محمد اقبال حرب الواقع كما هو دون رتوش ولا مكياجات ولا عمليات تجميل… ولكني رأيت فيها رسائل حب… رسائل نبيلة… تبرز بوضوح المقاربة الإنسانية للكاتب… وتبنيه هذا الخط: الأدب الإنساني.
وهو ما يظهر جليا في الإهداء الذي صدّر به الكاتب مجموعته، في الصفحة 3 … يهدي محمد اقبال حرب كتابه إلى أخيه الإنسان… جميل جدا… ولكن ليس أيّ إنسان… استفزازا… هو الإنسان “الذي تشبع بغرائز الكراهية وتحلى بأصفاد الرق في عرس العبودية”… الإنسان الذي كفر بنفسه وأهله ووطنه فخانهم دون احتشام…
يهدي محمد اقبال حرب لهذا الإنسان… رغم انحرافه المفضوح… عن كل القيم الإنسانية… ما يسميه… “رقية وطن طاهرة… هذا الكتاب… كتبها- ضيفنا- بدماء الأبرياء الذين نحرهم هذا الذي تشبع بغرائز الكراهية وتحلى بأصفاد الرق في عرس العبودية” على مذبح الشيطان.
والاستفزاز يطول صورة الغلاف… قطرة دم على ناصية راية وطن… تقطر من عنوان مستفز.. يعيش النظام… ولكن السياق العام لكل النصوص يجعلنا ننصت للكاتب وهو يقول في كل حرف… وكل كلمة… وكل جملة… وكل فقرة… وفي كل نص… ما صرخنا به جميعا… غاضبين… منتشين… مدندنين.. “الشعب… يريد… إسقاط النظام”
انتهى الكلام وشكرا لكم
قديم كتابال
السبت 08 أفريل 2017
صالون سوسة الدولي للكتاب. تقديم الكاتب: معز نعيجة[1]
by
Awsome site! I am loving it!! Will be back later to read some more. I am bookmarking your feeds also