29/03/2024

.

A good word aimed at the service of humanity

الحلقة الثامنة.. دماً مازلتُ أنزفُ، يا عراق… مشاهد من رحلتي الأخيرة/ مديح الصادق

1 min read

مديح الصادق

Spread the love

الحلقة الثامنة.. دماً مازلتُ أنزفُ، يا عراق… مشاهد من رحلتي الأخيرة/ مديح الصادق

 
من بغداد إلى ميسان الحبيبة حيثُ أمِّي تقيم…
الرابع عشر من حزيران 2014، لم يكن ليبدو لي أنه اليوم التاسع لي في بلدي الحبيب الذي امتطى جواد الوغى مذ دخلته مشتاقا لمرابع خضر، ودواوين حكمة ومعرفة وشعر؛ بل بدا أنه اليوم التسعين، يا لحظي العاثر إذ بعد غيبة التقيته مثخنا بالجراح، كسير الجناح، السوق السوداء لبيع الغاز والوقود عادت تزامنا مع أول خيط للأزمة، معها ارتفعت الأسعار خصوصا الضروري منها، تفجيرات هنا وهناك، حوادث قتل ضد مجهول، الحَرُّ قاتل حين يصاحب انقطاع الكهرباء، مراجعة أية دائرة تكلفك المعاناة حيث الروتين وتعمد وضع العراقيل من قبل بعض الموظفين الذين لا تجرؤ على مناقشتهم خشية أن يخرجوا لك من جيوبهم ورقة جاهزة (المادة 4 إرهاب) فتغني وحدك في الزنزانة (لا آني لهلي ولا آني لرفيجي) وأغلبهم شباب جاءت بهم أحزاب انتموا لها حديثا كسبا للرزق، تركتُ معاملة استبدال شهادة الجنسية العراقية؛ فالفساد هناك يزكم الأنوف، الأخبار من ميسان تقول إن أمي الحبيبة لم تنم ليلا مذ سمعتْ أني كسرتُ طوق الغربة إكراما لعينيها الكريمتين، تزحف الفجر على ركبتيها كي تفتح الباب حاملة رغيف خبز كنت من يديها أجده ألذَّ من الشهد، لم تعد بحاجة لمن يسندها للوصول لعتبة الدار، لله درُّكنَّ، أيتها الأمهات؛ يتغير وجه العالم حين بالحبِّ تنبض قلوب الأمهات.

جهَّزتُ حالي وحزمت كل أمتعتي ووثائقي كما فعلت عند قدومي لبغداد من كركوك؛ تحسبا لما تنذر به الأوضاع، وقد تتقطع بي السبل وعودتي لكندا عن طريق مطار أربيل، سائق التكسي الميساني يرمقني بنظرة استغراب كل حين لأني شددت حزام الأمان أول وهلة انطلقت سيارته بسرعة عالية على طريق خارجي، ولون بشرتي النضرة يفضح أني لم أكتوِ بما به اكتوى العراقيون، مذياع السيارة لا يكف عن ضخ الأناشيد الحماسية، وقصائد الحرب، وتكرار فتوى المرجعية للجهاد الكفائي من أجل حماية العتبات المقدسة ومنع دخول الإرهابيين إلى بغداد، خامرني شعور بأن الموصل سوف تعود نظيفة قبل صلاة العِشاء، هاهي ميسان الحبيبة، نسيمُها ليس كغيره، والنخل فيها على دجلة لم يكن لونه ككل النخيل، مداخلها توحي لك أن تغييرا يستحق الاهتمام قد بدا عليها مذ تركتها قبل عشرين عاما، أحياء جديدة، بناء حديث، مجسرات، حدائق مُسيَّجةعلى جانبي مدخلها، لوحات تشير إلى مرافق سياحية وفنادق حديثة؛ لكن الفرحة لم تدم حين وصلت الجانب الأيسر للعمارة، شوارع تشبه حقلا محروثا أهمله الفلاح لضيق ذات اليد، السرَّية والسراي، الجديدة، الماجدية، الدبيسات، شارع بغداد، شارع التربية العريق، مزابل وأكوام النفايات، الأنقاض وسط الشوارع – التي كانت جميلة يوما ما – حتى أن أصغر سيارة لا يمكن دخولها لإسعاف حالة طارئة، أو نقل مريض أو كبير سن، الكهرباء بين الوطنية والمولدات الأهلية لعبة تعوَّد عليها العراقيون، والظاهر أن محافظا نزيها مثل ( علي الدواي ) لايفلح بمفرده بإصلاح ما يعمد لتخريبه تجار الحروب والمنتفعون من خلق الأزمات، وما أكثرهم اليوم وفي كل الأيام.

صرختْ بكل ما لديها من طاقة، (يمَّه مديح، حلم هذا يو علم؟) تعلقتْ بعنقي شمَّاً وتقبيلاً، رغم أن عينيها قد جففهما كثر البكاء والنواح؛ لكني أحسستُ بسيل دموعها قد أغرق خديَّ، مثل جنين ببطن أمه ينعم بدفء رحمها الطيب النجيب، أين أخوك سمير؟، ألم تعدني بأنك سوف تحضره لي بعد غياب يزيد على الثلاثين عاما؟ صورته بيديها ليل نهار، مسكينة لم تزل تنتظر عودة واحد من ضحايا نظام فاشي لم يسلم من بطشه كل من قال للباطل كلا، ولم يركع للطاغوت، لا بأس عليك، يا أمي، فبعد الثمانين سوف ينصفك الذين لاتزال على رفوفهم مركونة معاملة الشهيد بعد أحد عشر عاما من تسلمهم مقاليد الأمور في البلاد، مع أنهم كانوا بالأمس من ضحايا ذلك النظام البغيض.
يتبع في الحلقة التاسعة

 
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmailby feather

2 thoughts on “الحلقة الثامنة.. دماً مازلتُ أنزفُ، يا عراق… مشاهد من رحلتي الأخيرة/ مديح الصادق

  1. لك كل الاحترام والتقدير لما انت فيه من ثقافة عالية ولما كتبت عن معاناة لامستها بعينك في بلدنا الحبيب تحياتي واحترامي استاذي الفاضل لك ولقلمك الملى بهموم ومناجات الروح والوطن

    منتهى صالح السيفي

  2. This blog is definitely rather handy since I’m at the moment creating an internet floral website – although I am only starting out therefore it’s really fairly small, nothing like this site. Can link to a few of the posts here as they are quite. Thanks much. Zoey Olsen

Comments are closed.

You may have missed