28/03/2024

.

A good word aimed at the service of humanity

دماً مازلتُ أنزفُ، يا عراق… مشاهد من رحلتي الأخيرة… ح1 ـ و ـ ح2 بقلم: د. مديح الصادق

1 min read

مديح الصادق

Spread the love

3 حزيران 2014 هزَّني الشوق للعراق الحبيب؛ فحزمتُ حقائبي، وكتبتُ عشر حلقات…
دماً مازلتُ أنزفُ، يا عراق… مشاهد من رحلتي الأخيرة…. الحلقتان الأولى والثانية
مديح الصادق … الحلقة الأولى
الثالث من حزيران، في صالة الانتظار بمطار تورونتو سرحتُ بعيدا وطويلا إذ سبقتُ طائرتي في الرسو على شواطئ وطن مجبرا فارقته، ودماً نزفتُ بعد ذلك الفراق، على كل شبر من شماله حتى الجنوب وقفتُ، وعفرت جبهتي بترابه الطيب الطهور، قبَّلتُ أكف شيوخه والأمهات، ورؤوس أطفاله العطاش للحياة، مع الصبيان والصبايا غنيَّتُ أغاني العشق الممنوع، وغير الممنوع، عاريا نزلت بماء الفراتين تعمَّدت، وأن على الأرض يعم السلام دعوت.
لم أنتبه لصوت المذياع المنادي بالتوجه إلى البوابة التي سننفذ منها لولا أن نبهتني ابنتي ( ماري ) التي كانت ترافقني في تلك الرحلة حالمة بمشهد احتضان وطن فارقته قبل أكثر من خمسة عشر عاما، وعلى أرضه كانت لها أولى الصرخات، في حقيبة يدها وثائق تخرجها من كندا وشهادات الخبرة، وصور لشتى مظاهر الحياة؛ فقد يكون لها نصيب فتحظى بوظيفة تناسب اختصاصها لتعيدها إلى حضن وطن حد العبادة – مثل أبيها – عشقته، وأحبت ناسه، وكل شيء فيه.
مطار أربيل كان أولى الخطوات، وعتبة الدار إلى بغداد مرورا بكركوك حيث لنا أحبة على أحر من الجمر كانوا منتظرين، ومن كل ما نشتهي من صنوف الطعام التي هجرناها؛ مائدة شهية عدًّا تنازليا نعدّ لها اللحظات، لكن الصدمة الأولى مما تبقى من وطني، طوابير العربات والمسافرين العالقين في بوابة أربيل كي تجرى لهم مستلزمات (الإقامة في كردستان العراق) – إن توفرت قناعة القائمين على ذلك المعبر (الحدودي)، ولعله أشد من الصاعقة على رأسي سؤال أحد أفراد جهاز الأمن في الإقليم الكردي – الأسايش -: (هل أنتم أكراد أو عراقيون؟) لكنه أفرج عنا بعد الاعتذار الشديد حين أخرجنا له جوازي سفرنا الكنديين.
أزاح عنا آثار تلك الغمة نكات سائقنا الكردي الذي كان قاصدا أن تكون حول الأكراد، وبعض الأغاني الكردية التي ذكرتني بزمن جميل، وأناس أجمل، من الطيبين من شعبنا الكردي، وفي كركوك كانت الصدور مفروشة لنا قبل الموائد، وامتزجت زغاريد أفراح بدموع اللقاء، وخفقات القلوب، (ماري) التفتت نحوي كي تخفف عني وطأة الصدمات: لابأس عليك يا بابا، إنه الوطن الذي عشقت، وليس للعاشق غيرُ صبرٍ على جوى المعشوق!

دماً مازلتُ أنزفُ ياعراق…. مشاهد من رحلتي الأخيرة .. الحلقة الثانية
رغم أن المسافة بين أربيل وكركوك لا يتعدى زمنها الساعة والنصف؛ إلا أني أحسست بأن الزمن كان أطول من ذلك بكثير، ازدحام
الشوارع بمركبات من شتى الموديلات التي لم أسمع بها من قبل، ( أوباما ) و ( سايبة ) وغير ذلك مما لم احفظه، كلٌّ يجتاز غيره دون أي نظام للمرور، بلا إشارات عند التوقف أو تغيير الخط أو الانعطاف، لم أستوعب أن الشوارع والطرقات الخارجية بلا خطوط، بيضاء أم صفراء، إشارات المرور الضوئية خصصت للرئيسي من التقاطعات، أما غيرها فالثقة موجودة، وكلنا عراقيون، مراكز شرطة ودوائر رسمية ووحدات عسكرية، سألتُ السائق: أين الأعلام؟ أيعقل أن دوائر رسمية بلا أعلام؟ أجابني صديقنا الكردي: كيف لا؟ ألا تكفي أعلام كردستان؟
كركوك تلك المدينة الجميلة الحالمة التي حظيت بلقب أجمل مدينة في العراق في سبعينيات القرن الماضي؛ لم تعد جميلة كما كانت من قبل إلا بما تبقى في نفوس أهلها الطيبين من حب للخير، ووفاء للصديق، وتعايش بسلام بين ألوان طيفها الجميل الذي عرفت به، وكان دافعا لتنوع ثقافي، وتماسك يشوبه الود والانسجام وحسن الجوار؛ أما اليوم فالشوارع ماعادت جميلة مثلما كانت من قبل، بقايا الأنقاض، المزابل، الحدائق عطشى، ويتيمة شاحبة هي الأزهار، وغادرت أعرق الشوارع فيها باسقات جوز الهند، والنخيل، عليك أن تراقب بحرص ساعات انقطاع الكهرباء، الوطنية منها والمولدات، في الأولى يشغلون المكيفات وفي الثانية لا تشتغل سوى المراوح والمبردات، رغم ما تضخ من رطوبة عالية، وهواء مشبع ببقايا تخمر الماء في الحلفاء، والماء غير الصالح إلا للغسل يحل عليهم ضيفا بين اليوم والآخر، في كل شارع سيطرة للشرطة والجيش، عوائق ترابية أو من الأنقاض، الجار لم يعد يأمن لجاره كما كانت الحياة من قبل، البنادق محشوة ومعدة للإطلاق، وهناك من نصب أكثر من كاميرا عند مدخل الدار، لا يفتح الباب إلا بعد التأكد من طارقه، والمصيبة أن الفقراء منهم قد توزعت ولاءاتهم دون أن يعلموا أن من يصطفون خلفهم ماهم إلا سارقون لثرواتهم، لجهودهم، لإنسانيتهم؛ يدفعون بهم لقتل بعضهم بعضا وهم في حصونهم يحتمون
عائلة مسيحية مسالمة بأكملها قد ذبحت ذبحا بالسكاكين في حي دوميز، لاذنب لهم سوى أنهم مسالمون، ما سرقوا خبزة الفقير، ولا ضحكوا على ذقون المغفلين، ما غدروا بجارهم، ولا هم بحب الناس، كل الناس باخلون، الرصاص ينهال زخاً على صدر ذلك الشاب المندائي المسكين الذي ضاقت به سبل العيش فلم يجد من باب سوى الالتحاق بسلك الشرطة، وتلك جريمة عدَّها أولئك الذين خلت قلوبهم من كل رحمة رغم ما يدعون وشعارات الدين التي يرفعون، وآخر تركماني فُجِّر بيته بعد أن أشاع للمارة أمام بيته صندوقا للماء البارد مكتوبا عليه ( اشرب الماء واذكر عطش الحسين ) ولعله لم يسلم من موت محتم ذلك الشاب العلماني المتطلع إلى وطن ترابه للجميع، والدين فيه لمن له الدين، فلم يكن حظه أوفر من الضحايا الذين سبقوه؛ لكن الفرق أنه بكاتم صوت اغتيل، أما ابنتي ( ماري ) رفيقة رحلتي فقد كان طبيعيا أن تصاب بالرعب والذهول جراء ما سمعت من قصص تنافي أبسط مبادئ حقوق الإنسان؛ وهي التي عاشت في كندا التي يعتبر فيها جريمة أن يُجار على حيوان، فكيف إذا كان المُجار عليه هو الإنسان>

 
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmailby feather

2 thoughts on “دماً مازلتُ أنزفُ، يا عراق… مشاهد من رحلتي الأخيرة… ح1 ـ و ـ ح2 بقلم: د. مديح الصادق

Comments are closed.

You may have missed