19/04/2024

.

A good word aimed at the service of humanity

نظرة على تطور النظم السياسية في العراق القديم.. بقلم: حامد خيري الحيدر

1 min read

حامد خيري الحيدر

Spread the love

نظرة على تطور النظم السياسية في العراق القديم               

حدثت ثورة الاستيطان المدني في وادي الرافدين عند منتصف الألف الرابع ق.م، فمثلت تحولاً حضارياً هاماً في سلسلة التطور الاجتماعي للمجتمعات البشرية، انتقل خلاله الإنسان من الحياة القروية إلى المدنية، وتعتبر مدينة الوركاء أول من شهدت ذلك التحول الكبير الذي شمل فيما بعد باقي مدن أرض الرافدين الأخرى. وقد صاحب ذلك التطور تغير الكثير من النظم والمفاهيم والتقاليد السائدة الموروثة عن الحياة السابقة، منها نظم إدارة تلك المجتمعات البشرية الجديدة، فأخذ شكل تلك الإدارات بالوضوح في نهاية الألف الرابع ومطلع الألف الثالث ق.م حيث تحولت التجمعات القروية القديمة إلى دويلات صغيرة، لكل منها حدودها وإدارتها الخاصة بها ومعبودها القومي وجيشها الحامي واقتصادها الخاص. لقد كان للظروف الطبيعة القاسية التي عاشتها تلك المدن مثل أخطار الفيضانات المتكررة أو شحة الأمطار واتشار الأوبئة وأيضا تعرضها إلى الغزوات الخارجية، وغيرها من الأسباب قد أوجبت قيام تلك الإدارات لتجمع الجهود وتنسيقها وتوجيهها من أجل خدمة الجماعة ومجابهة تلك الظروف الطارئة فنشأت بذلك أولى الحكومات المعروفة آنذاك.


كان المعبد هو الموجه لدفة الحياة في تلك المدن في بداية تكوينها والمُخطط والمُنظم الاقتصادي لها، حيث كان يشرف على تنظيم الزراعة وخطط الإرواء وتنظيم التجارة والاشراف على المهن والحرف اليدوية في المشاغل وأيضا حل المشاكل والنزاعات التي قد تنشأ بين أبناء المدينة. لذلك كان الكاهن الأعلى والمسمى بالسومرية (أين) أي (السيد) هو الشخصية الأولى في تلك الحكومة الدينية، علماً أن هذه الكلمة لازالت متداولة حتى وقتنا الحاضر تطلق على الشخوص كبار المنزلة (عين من الأعيان)، وكان يجمع بين سلطتين، السلطة الدينية باعتباره الكاهن الأعلى حيث يمارس دوره الكهنوتي في أجراء الطقوس الدينية الدورية داخل المعبد وخلال الأعياد والمناسبات الرسمية، وبنفس الوقت يترأس سلطة إدارة مجريات الحياة داخل حدود مدينته وتنظيم حياة سكانها…. ولا يُعرف تماماً فيما إذا كان ذلك الكاهن يتولى منصبه عن طريق الوراثة أم عن طريق الانتخاب من قِبل بقية الكهنة، أو لتميزهُ عنهم بفارق العمر أو تدرجهُ الديني.
مع تطور الحياة وتعدد مسؤوليات الكاهن الأعلى الدنيوية وتشعبها، صار من الصعب عليه الالتزام بواجباتهِ، فحدث في حدود 2800 ق.م نوع من الانفصال بين سلطتيه الدينية والسياسية الادارية فاخذ كهنة آخرون يحلون محله للقيام بمهامه الدينية، ليتفرغ هو بشكل أكبر لمهمة إدارة المدينة ورعاية شؤون سكانها، لكنه ظل يحتفظ بصفتهِ الكهنوتية العليا في الاحتفالات الدينية خاصةً أعياد راُس السنة، وسُميت هذه الشخصية الجديدة بالسومرية (أينسي) أي (الامير)…. أضافة الى سلطة المعبد الدينية والامير الحاكم فقد وجد خلال تلك الفترة نوع من النظام الديموقراطي البدائي، يتمثل بسلطة برلمانية تعتبر الأولى من نوعها في التاريخ، فكانت كل مدينة تدار من قبل مجلسين الأول يضم الشيوخ وكبار السن (الحكماء)، والثاني يضم الرجال القادرين على حمل السلاح (الشباب).. أي أنهما يمثلان أهم عنصرين في المجتمع (الخبرة والقوة). كان المجلسان يناقشان جميع القضايا العامة التي تخص المدينة ويتخذان القرارات المناسبة بشأنها بالأخص قرارات الحرب، ثم يعطون توجيهاتهم إلى الأمير ليقوم بتنفيذها….. وهناك عدة نصوص مسمارية توضح او تعطي اشارات عن عمل هذين المجلسين، لعل أهمها النص المسمى (قصة كًلكًامش وحاكم أكًا) الذي يتطرق لواقعة تدور أحداثها في مدينة الوركاء تتمحور تفاصيلها بأعلان حالة حرب مع مدينة (أكًا)، ويصّور النقاشات الحادة بين المجلسين لااتخاذ قرار الحرب أم السلم، الذي أنتهى في النهاية لصالح مجلس الشباب الذي كان يريد الحرب، وبالفعل أعلنت وأعطيت الأوامر إلى الأمير (كًلكًامش) ليقود الجيش ضد المدينة المعادية… لكن بنفس الوقت لم توضح تلك النصوص كم كان عدد أعضاء تلك المجالس أو طريقة اختيارهم لعضويتها.. لكنه يرجح أنهم كانوا ممثلين عن الأسر والعوائل التي كان يتكون منها مجتمع المدينة، على اعتبار أن المدن في بدايات نشأتها لازلت تعتمد النظام العائلي القبلي الموروث عن الكيان القروي السابق في هيكل بنائها الاجتماعي.
وفي حالات الطوارئ والظروف الاستثنائية مثل نشوب الحروب كما في المثال السابق أو الكوارث الطبيعية كان المجلسان يمنحان الامير صلاحيات استثنائية مطلقة لحكم المدينة دون الرجوع اليهما لأخذ موافقتيهما، لتمكينهِ من اتخاذ القرارات السريعة المناسبة خلال تلك الظروف على أن ُتسترجع هذه الصلاحيات بعد زوال مبررات منحها ليرجع الامير الي وضعهِ السابق بسلطته المُقيدة بقرارات المجلسين… وقد سميت الشخصية الجديدة صاحبة السلطة الاستثنائية بالسومرية (لوكًال) وتعني الرجل العظيم أي الملك وبالأكدية (شار)، وكانت هذه بداية ظهور الملكية بمعناها المعروف في وادي الرافدين وذلك في حدود 2600 ق.م. ثم حدث أن الملوك بمرور الزمن واستمرار حالات الطوارئ لفترات طويلة تعاظمت قوتهم العسكرية والسياسية، فاخذ الملك يحتفظ لنفسهِ بالصلاحيات الممنوحة له حتى بعد زوال ظروفها، بل قام تدريجياً بتقليص نفوذ المجلسين ليجعلهما تابعين له مؤيدين لقراراته وطبيعة حكمه الجديد جاعلاً من وجودهما شكلياً.. وهكذا تم تحول النظام السياسي من الديموقراطية الى الملكية التسلطية، وقد ظلت بقايا ذلك النظام الديموقراطي حتى بعد سيادة الملكية متمثلة بمجالس المدن التي كانت تختص بالنظر في القضايا العامة التي يحيلها إليها الملك والتي غالباً ما تكون قضائية والتي استمرت إلى آخر عهود وادي الرافدين.
كان لاستقرار الاوضاع السياسية فرصة لبعض الملوك المتعاظمة قوتهم أن يبسطوا نفذهم على بقية دويلات المدن الأخرى وتوسيع رقعة سيطرتهم على الاراضي الزراعية ومصادر المياه ثم احتلال المزيد من الأقاليم لتأمين طرق المواصلات المؤدية إلى مناطق المواد الخام في البلاد البعيدة لسد الاحتياجات المتنامية للدولة الجديدة وتقويتها اقتصادياً، ليتم فيما بعد توحيد تلك الدويلات والأقاليم في مملكة واحدة ذات سلطة مركزية موحدة امتدت سلطتها الى خارج حدود وادي الرافدين. كان (لوكال زاكيزي) ملك مدينة (اوما) 2380 ق.م اول من بدأ بهذا المخطط تلاه (سرجون الأكدي) 2371 ق.م، الذي اسس أول امبراطورية في التاريخ تمتد من الخليج العربي (البحر السفلي) وحتى البحر المتوسط (البحر العلوي)، ليتحول وخلفاؤهُ الى اباطرة يحكمون منطقة واسعة من الشرق الادنى القديم، وقد رافق هذا التوسع السياسي ظهور مسميات وألقاب جديدة تقلدها هؤلاء الملوك تبين مدى سطوتهم وعظم الرقعة الجغرافية التي غدت تحت نفوذهم مثل (شار مات شوميرم أو أكيدم/ ملك بلاد سومر وأكد)، (شار كيبرات أربايم/ ملك الجهات الاربعة)، (شار كلي شري/ملك كل الملوك). ليستمر بعدها هاجس التوسع الامبراطوري لدى جميع السلالات التي تعاقبت على حكم وادي الرافدين المتمثلة في (اور الثالثة)، (حمورابي)، (الآشورية)، (الكلدية). حتى انقلبت الأوضاع كلياً بسقوط بابل سنة 539 ق.م ليصبح وادي الرافدين جزء من أملاك الامبراطورية الفارسية الأخمينية.
لقد أضاف الملوك وهم يتحولون الى السلطة المطلقة لذواتهم صفة القدسية، معتمدين بذلك على الخلفية الدينية لمنصبهم (الكاهن الاعلى). وقد أشارت النصوص المسمارية إلى أن الآلهة ما خلقت البشر إلا لخدمتها والإشراف على أملاكها في الأرض فاختارت أحدهم (الملك) ليكون ممثلاً لها ونائباً عنها في قيادة الناس، فتسلمه شارات الملوكية من السماء دلالةً على أن الملك معين من قبل الآلهة وله حقاً إلاهياً لا يجوز لأحد المساس به سوى الآلهة نفسها وبالتالي فأن جميع الأوامر والتشريعات التي يصدرها إنما تتم بوحي من الآلهة لذا فهي واجبة التنفيذ…. وقد ساعد هذا الاعتقاد على بقاء الملوك في حكمهم فترات زمنية طويلة…. لكن بالرغم من هالة القدسية والتعظيم التي أضفتها المعتقدات العراقية القديمة على شخص الملك فأن ملوك وادي الرافدين لم يصلوا إلى درجة التأليه كما هو الحال عند فراعنة وادي النيل، حيث أن الملك بقى من البشر يحيى حياةً بشرية غير مخلدة ويمارس طقوسه الدينية كإنسان عادي، كما تذكر النصوص الملكية الأعمال الدينية التي يقوم بها الملك ليكسب رضا الآلهة، كذلك تصورهم المنحوتات والمسلات وهم يحملون على رؤوسهم سلة البناء دلالةً على مشاركتهم في بناء المعابد والمباني الدينية، أو يظهرون في أخرى واقفين بهيئة الخشوع أمام الآلهة يقدمون لها القرابين. وللتاُكيد أيضاً على هذا الخضوع فقد كانت إحدى مراسيم عيد راُس السنة المسمى (أكيتو) أن يقف الملك أمام تمثال الإله القومي خالعاً جميع شاراته الملكية ليضعها أمامه متعهداً له بالولاء وتنفيذ جميع رغباته، عندها تعاد له الشارات مجدداً فيجدد عرشه سنة أخرى جديدة…. باستثناء حالتين فقط ظهرت إشارات غير واضحة أو مؤكدة اختلف الباحثون في تفسيرها لإدعاء الملوك الإلوهية أو هكذا يُعتقد، الأولى كانت مع (نرام سن) الملك الرابع في السلالة الأكدية 2371_2230 ق.م الذي ظهر في مسلتهِ المعروفة باسم (مسلة النصر) ومنحوتات أخرى مرتدياً الخوذة المقرنة التي اقتصر اعتمارها على الآلهة دون غيرهم، كما أن اسمه كان يكتب في النصوص الملكية مسبوقاً بعلامة النجمة التي توضع عادةً قبل أسماء الآلهة للدلالة عليها… أما الحالة الثانية فكانت مع (شولكًي) الملك السومري الثاني في سلالة أور الثالثة 2113_2006 ق.م حيث ظهر اسمه في الكتابات أيضاً مسبوقاً بعلامة النجمة.. لكن يبقى هذين المثالين استثنائين وشاذين عن معتقدات وادي الرافدين وخطها الفلسفي العام.
كانت طبيعة اختيار شخص الحاكم منذ انفصال السلطتين الدينية عن المدنية في مطلع الألف الثالث ق.م كما أسلف يتم بشكل وراثي داخل العائلة الحاكمة. ويكون وريث المُلك أما أحد الإخوان أو الأبناء أو الأحفاد.. وقد استمر هذا التقليد مُتبعاً إلى آخر العهود السياسية لبلاد وادي الرافدين القديمة…. وكان اختيار ولي العهد يعتبر حقاً شرعياً خاصاً للملك يتم الإعلان عنه في حفل كبير يضم حكام الأقاليم والمقاطعات والمدن، وكذلك قادة الجيش وجال البلاط، يتعهد به هؤلاء جميعاً بالطاعة والولاء للملك الجديد…. هذا طبعاً إذا سارت الأمور بشكل طبيعي بروتوكولي سلس.. وما عدا ذلك فقد حدثت العديد من الانقلابات العسكرية تم خلالها تغير السلطات السياسية بأخرى، وغالباً ما كانت تلك الانقلابات دموية الطابع يعقبها التنكيل برموز السلطة السابقة… كما يبدو ذلك واضحاً عند تولي الملك سرجون الأكدي العرش عام 2371 ق.م، وكذلك المؤامرات العديدة التي حدثت في زمن الامبراطورية الآشورية الحديثة عند مطلع الألف الأول ق.م…. وقد ذكرت أدبيات سالبي العروش هؤلاء لغرض شرعنة حكمهم الجديد، أن الآلهة هي التي اختارتهم بعد فشل الحكام السابقين بتنفيذ رغباتها…. كما كان تغير الأنظمة الحاكمة يتم كذلك عن طريق الحروب والاحتلال الأجنبي لأرض الرافدين.. كما حصل هذا مرات عديدة، على سبيل المثال عند سقوط حكم الامبراطورية الأكدية على يد القبائل (الكًوتية) البربرية عام 2230 ق.م، أو لدى احتلال مدينة (أور) من قبل (العيلاميين) عام 2006 ق.م، وسقوط سلالتها الثالثة، وكذلك سقوط مدينة (بابل) على يد (الحثيين) عام 1595، ثم اسقاطها للمرة الثانية عام 539 ق.م من قبل الفرس (الأخمينين)….. ومن المهم ذكره في هذا الجانب كذلك هو دور الشعوب الطامحة للحرية في عملية تغيير الانظمة الحاكمة…. وهذا ما بدا واضحاً في عملية التغيير السياسي الذي حدث في دويلة (لكًش) السومرية عام 2400 ق.م. والذي كان أثر ثورة جماهيرية عارمة تعتبر الأولى من نوعها في تاريخ البشرية… أطاحت بالسلطة السابقة الفاسدة لتتولى الحكم أخرى جديدة رموزها وأهدافها من الشعب واليه.
لقد ساعد الملك في حكمه العديد من الشخصيات والموظفين الحكوميين الذين الفوا جهازا أدارياً متكاملاً تنفذ أوامره وقراراته وتساعده في اتخاذ الصحيح والمناسب منها.. مثل الوزراء، المستشارين، قادة الجيش، كبار الكهنة وقراء الفأل، الكتبة والمحاسبين الماليين، مسؤولي الخزائن، مشرفي الأقطاعات الزراعية، متابعي المشاغل الصناعية، السفراء لدى الدول الأخرى… كما عمل في خدمة القصر العديد من الموظفين.. مثل الحجاب، الطباخين، السقاة، الموسيقيين، مسؤولي العبيد، الخدم… رغم ما كانت توحي قوة السلطة المركزية للملك في السيطرة على البلاد، (وقد كانت كذلك بالفعل) لكن كان النظام المتبع في إدارة الدولة والذي أصبح بمثابة عرفاً سياسياً متبعاً منذ عهد إمبراطورية أور الثالثة 2113_2006 وحتى العهود اللاحقة خلال الألفين الثاني والأول ق.م.. هو اللامركزية الادارية.. حيث كان يتم تقسيم الدولة الى عدد من الأقاليم، تقسم بدورها إلى وحدات أصغر هي المقاطعات ثم المدن ثم القرى… وكان حاكم أو رئيس كل من هذه الوحدات الادارية مسؤولاً أمام الحاكم الأكبر منصباً، من ناحية الامور التي تخص وحدته الإدارية فيما يخص جمع الضرائب وتجنيد الشباب للجيوش، وكذلك في إقامة المشاريع التنموية كحفر الجداول والمبازل واستصلاح الأراضي الزراعي وكذلك متابعة أمور القضاء… ليكون كبار حكام الأقاليم مسؤولين ومحاسبين بشكل مباشر أم شخص الملك.. وبهذه الطريقة تمت السيطرة إلى حدٍ بعيد على الدولة المترامية الأطراف، ساعد في ذلك إنشاء جهاز بريدي متطور وسريع لإيصال الأوامر والمعلومات بين الحكام والبلاط الملكي، وهذا ما حققته سياسة الإمبراطورية الآشورية الحديثة بنجاح منقطع النظير.

 
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmailby feather

4 thoughts on “نظرة على تطور النظم السياسية في العراق القديم.. بقلم: حامد خيري الحيدر

Comments are closed.

You may have missed